العريفة والمنبّش- حكايا القرية بين الحرث والفتنة
المؤلف: علي بن محمد الرباعي09.19.2025

تهيّأ شيخ القرية، ووضع حزامه الحلبي المطرّز، ثم توجه إلى أسفل القلعة الشامخة، كما يسميها أهلها، وحمل فأسه الثقيلة على كتفه المتينة، ووضع معول الحفر على ذراعه القوية، وكيس البذور فوق رأسه، ثم نادى على زوجته بصوت جهوري: "يا امرأة، أسرعي باللحاق بنا برفقة الثيران، لكي نزرع الأرض ونثبت دعائم الزرع، قبل أن تهلّ علينا الأمطار الغزيرة التي تحوم في سمائنا منذ البارحة". فأجابت الزوجة الصالحة بصوت هادئ: "الله يرزقنا خيرًا بفضله وكرمه!". فردّ عليها الشيخ بانفعال: "الرزق سيأتي غدًا، أما اليوم فلنعمل بجد حتى ننتهي من العمل".
وما إن خطا خطوات قليلة، وإذا بأحد أفراد القرية القادم من بعيد، ويدعى (المنبّش) يظهر قادمًا من رأس التل، فقال الشيخ في نفسه متضايقًا: "يا ليتك لم تأتِ، فهذا الرجل دائمًا ما يعطّلنا ويؤخرنا". ثم ضغط بقدمه الحافية على خشبة المحراث، وثبّت قبعته بيمينه الخشنة، فتوقفت الثيران عن الحركة.
أقسم (المنبّش) بأنه لم يقصد إزعاج شيخ القرية الوقور، ولكنه سمع همسات تدور حول الفقيه والمؤذن، وشكّ في وجود مكيدة تحاك في الخفاء، في بيت الضيف الثري الذي حلّ في القرية ومعه المال والذهب. فبدأ الشك يراود الشيخ أيضًا، فطلب من (المنبّش) أن يمسك المحراث ويكمل عمليه الزرع، وتناول حجرًا أملسًا، فوضع عمامته المزخرفة عليه، وجلس مستريحًا في ظل شجرة وارفة، وأشعل سيجارة، وقرر أن يلقّن (المنبّش) درسًا لن ينساه أبدًا.
دوّى الرعد في السماء، فالتفت (المنبّش) نحو الشيخ، وقال: "لنترك العمل ونكمله غدًا". فردّ الشيخ بحدة: "بالطلاق لن تترك العمل قبل أن تصل إلى نهاية الحقل وأنت رجل". فمسح (المنبّش) العرق عن جبينه المتصبب، وصاح في الثيران لتتحرك، فنهره الشيخ قائلًا: "لا تصرخ، بل غنّ لها لتنشط". فقال (المنبّش): "لقد نفد صبرها ولم تعد تمشي برغبة". فاستغل الشيخ هذه الفرصة ليدسّ له سؤالًا في نفسه، وقال: "من أخبرك أن للثور قلبًا؟!". فصمت (المنبّش) وأحسّ بالإحراج.
هطل المطر بغزارة، فأطلقوا سراح الثيران، فأسرعت نحو الوادي المتدفق بالمياه، فطلب الشيخ من (المنبّش) أن يحمل المحراث والمعول، فردّ (المنبّش): "إنهما ثقيلان، ساعدني". فقال الشيخ: "أحمل الفتنة بكبرها، ألن تستطيع حمل خشبتين؟ احملهما، ولا تنتظر المساعدة". فسبقهم (المنبّش) والثيران تتبعه.
طلب الشيخ من ابنته (صفيّه) أن تضع الفأس عند الباب، لكي تمتص الصواعق، وأضاف: "جففي ملابس العائلة، وضعي علفًا في حظيرة الغنم، لكي لا يصاب صغارها بالبرد القارس". وأرسل ابنه (مرشود) ليحضر له المؤذن، فعاد الابن وحده، فسأله الشيخ: "أين هو؟". فأجابه الابن: "يقول سيصلي المغرب ويتعشى ثم سيأتي". فعلّق الشيخ ساخرًا: "سوف يتشقق عظمه من شدة الخوف من الله!".
سمع الشيخ صوت خطوات المؤذن في الدرج، فرفع صوت المذياع، لكي لا يضطر للترحيب به، فدخل المؤذن عليه، وقال: "لماذا تستدعيني وأنت لا ترحب بي؟". فقال الشيخ: "لم أسمعك بسبب صوت الشيطان هذا، اخفض الصوت". ثم استقام الشيخ، لكي يزيد نور المصباح، وهو يتمتم ببيت من قصيدة قديمة: (أشعيت أتاريكنا يا اتريك أفندي)، ثم جلس وقال: "سمعت كلامًا عنك وعن فقيهك، أتمنى أن يكون خيرًا". فردّ المؤذن بثقة: "مثلك يعرف أن الفقيه هو الفيء الذي يظللنا، والكلام الذي نقله لك النمام ليس صحيحًا". فردّ الشيخ بحزم: "الفيء على رأسك، كالظل الزائف، أما رؤوسنا فيظلها السماء الواسعة".
فتح الشيخ معه حديثًا طويلًا ليس له نهاية، فسأله: "ما هذه المودة التي ظهرت في آخر الزمان؟ يا لهذا الفقيه في قلبك! لم يبقَ عليك إلا أن تقول (يا الله احشرني معه في زمرة الأتقياء) كما قال الزرقوي". فردّ المؤذن: "لماذا أنت متوتر ومنزعج كعنز جرباء ترى جدارًا متصدعًا؟ وأضاف بوقاحة: أظنك نسيت يوم طلبت مني أن أشهد معك زورًا على حق الأيتام؟". فاعتدل الشيخ في جلسته، وسأله: "منذ متى ظهرت لك أجنحة يا فرخ الحجل، وأنت ذليل منذ أن عرفتك؟ ترى صورة فقيهك في الماء الذي تشربه". فقال المؤذن بتذلل: "من ذلّ سلم". فردّ عليه الشيخ: "لا فرحت بسلامتك، والله الذي يذل لا يسلم أبدًا". ثم طلب منه أن يعطيه (المسبولة).
تجرع المؤذن ريقه بصعوبة، وهو يتناول عصاه الغليظة، ثم علّق قائلًا: "لا أظن أنك ستصدق حكايات النمامين عني، وأنا أعرف حدودي كما تعرف حدودك". فرفع الشيخ صوته قائلًا: "حدودك هي أن الفقيه اتخذك درعًا واقيًا له، تدافع وتخاصم بالنيابة عنه، وتشعل نار الفتنة بين الجماعة، وإذا اشتعلت النار قلتم افزع يا شيخ القرية وأطفئها". فقال المؤذن: "أنت لا تدري، لولا الفقيه لافترسني (الجعير) في الوادي". فردّ عليه الشيخ: "كذبًا، ديتك عنده حمارة يا هذا، وما كذب القائل يوم قال (طمع الميّت في الحيّ)".
وما إن خطا خطوات قليلة، وإذا بأحد أفراد القرية القادم من بعيد، ويدعى (المنبّش) يظهر قادمًا من رأس التل، فقال الشيخ في نفسه متضايقًا: "يا ليتك لم تأتِ، فهذا الرجل دائمًا ما يعطّلنا ويؤخرنا". ثم ضغط بقدمه الحافية على خشبة المحراث، وثبّت قبعته بيمينه الخشنة، فتوقفت الثيران عن الحركة.
أقسم (المنبّش) بأنه لم يقصد إزعاج شيخ القرية الوقور، ولكنه سمع همسات تدور حول الفقيه والمؤذن، وشكّ في وجود مكيدة تحاك في الخفاء، في بيت الضيف الثري الذي حلّ في القرية ومعه المال والذهب. فبدأ الشك يراود الشيخ أيضًا، فطلب من (المنبّش) أن يمسك المحراث ويكمل عمليه الزرع، وتناول حجرًا أملسًا، فوضع عمامته المزخرفة عليه، وجلس مستريحًا في ظل شجرة وارفة، وأشعل سيجارة، وقرر أن يلقّن (المنبّش) درسًا لن ينساه أبدًا.
دوّى الرعد في السماء، فالتفت (المنبّش) نحو الشيخ، وقال: "لنترك العمل ونكمله غدًا". فردّ الشيخ بحدة: "بالطلاق لن تترك العمل قبل أن تصل إلى نهاية الحقل وأنت رجل". فمسح (المنبّش) العرق عن جبينه المتصبب، وصاح في الثيران لتتحرك، فنهره الشيخ قائلًا: "لا تصرخ، بل غنّ لها لتنشط". فقال (المنبّش): "لقد نفد صبرها ولم تعد تمشي برغبة". فاستغل الشيخ هذه الفرصة ليدسّ له سؤالًا في نفسه، وقال: "من أخبرك أن للثور قلبًا؟!". فصمت (المنبّش) وأحسّ بالإحراج.
هطل المطر بغزارة، فأطلقوا سراح الثيران، فأسرعت نحو الوادي المتدفق بالمياه، فطلب الشيخ من (المنبّش) أن يحمل المحراث والمعول، فردّ (المنبّش): "إنهما ثقيلان، ساعدني". فقال الشيخ: "أحمل الفتنة بكبرها، ألن تستطيع حمل خشبتين؟ احملهما، ولا تنتظر المساعدة". فسبقهم (المنبّش) والثيران تتبعه.
طلب الشيخ من ابنته (صفيّه) أن تضع الفأس عند الباب، لكي تمتص الصواعق، وأضاف: "جففي ملابس العائلة، وضعي علفًا في حظيرة الغنم، لكي لا يصاب صغارها بالبرد القارس". وأرسل ابنه (مرشود) ليحضر له المؤذن، فعاد الابن وحده، فسأله الشيخ: "أين هو؟". فأجابه الابن: "يقول سيصلي المغرب ويتعشى ثم سيأتي". فعلّق الشيخ ساخرًا: "سوف يتشقق عظمه من شدة الخوف من الله!".
سمع الشيخ صوت خطوات المؤذن في الدرج، فرفع صوت المذياع، لكي لا يضطر للترحيب به، فدخل المؤذن عليه، وقال: "لماذا تستدعيني وأنت لا ترحب بي؟". فقال الشيخ: "لم أسمعك بسبب صوت الشيطان هذا، اخفض الصوت". ثم استقام الشيخ، لكي يزيد نور المصباح، وهو يتمتم ببيت من قصيدة قديمة: (أشعيت أتاريكنا يا اتريك أفندي)، ثم جلس وقال: "سمعت كلامًا عنك وعن فقيهك، أتمنى أن يكون خيرًا". فردّ المؤذن بثقة: "مثلك يعرف أن الفقيه هو الفيء الذي يظللنا، والكلام الذي نقله لك النمام ليس صحيحًا". فردّ الشيخ بحزم: "الفيء على رأسك، كالظل الزائف، أما رؤوسنا فيظلها السماء الواسعة".
فتح الشيخ معه حديثًا طويلًا ليس له نهاية، فسأله: "ما هذه المودة التي ظهرت في آخر الزمان؟ يا لهذا الفقيه في قلبك! لم يبقَ عليك إلا أن تقول (يا الله احشرني معه في زمرة الأتقياء) كما قال الزرقوي". فردّ المؤذن: "لماذا أنت متوتر ومنزعج كعنز جرباء ترى جدارًا متصدعًا؟ وأضاف بوقاحة: أظنك نسيت يوم طلبت مني أن أشهد معك زورًا على حق الأيتام؟". فاعتدل الشيخ في جلسته، وسأله: "منذ متى ظهرت لك أجنحة يا فرخ الحجل، وأنت ذليل منذ أن عرفتك؟ ترى صورة فقيهك في الماء الذي تشربه". فقال المؤذن بتذلل: "من ذلّ سلم". فردّ عليه الشيخ: "لا فرحت بسلامتك، والله الذي يذل لا يسلم أبدًا". ثم طلب منه أن يعطيه (المسبولة).
تجرع المؤذن ريقه بصعوبة، وهو يتناول عصاه الغليظة، ثم علّق قائلًا: "لا أظن أنك ستصدق حكايات النمامين عني، وأنا أعرف حدودي كما تعرف حدودك". فرفع الشيخ صوته قائلًا: "حدودك هي أن الفقيه اتخذك درعًا واقيًا له، تدافع وتخاصم بالنيابة عنه، وتشعل نار الفتنة بين الجماعة، وإذا اشتعلت النار قلتم افزع يا شيخ القرية وأطفئها". فقال المؤذن: "أنت لا تدري، لولا الفقيه لافترسني (الجعير) في الوادي". فردّ عليه الشيخ: "كذبًا، ديتك عنده حمارة يا هذا، وما كذب القائل يوم قال (طمع الميّت في الحيّ)".